الرئيسية » مقالات » مقالاتي

الدولة الفلسطينية الضائعة بين التسويف الأميركي والرفض الإسرائيلي والعجز العربي - 2

أ‌- هؤلاء الرجال الذين يسيطرون على القوات المسلحة للسلطة الفلسطينية شاركوا في حينه في اللقاء الذي عقد في القاهرة مع زعماء الشاباك والموساد الإسرائيليتين والذي رسم عمليا ملامح التسوية الممكنة للقضية الفلسطينية. وقد صرح مساعد وزير الخارجية الأميركي إدوارد ووكر ورئيس الاستخبارات المصرية عمر سليمان ومدير وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" أبو الدق في وقت واحد تقريبا بأن القيادات الأمنية الفلسطينية جاهزة مبدئيا لقبول شروط إسرائيل على صعيد إقامة الدولة الفلسطينية، أي ما يتعلق بعودة اللاجئين والحدود والقدس. ومن الملفت أن اغتيال إسرائيل قائد الجناح العسكري لـ"حماس" أبو محمود حمود جاء مباشرة إثر تحذيره جبريل رجوب من السير قدماً في "مغازلة" الإسرائيليين. وثمة أنباء قالت إن رسالة أحد زعماء "حماس" نبيل كواعكه تليت في قمة لزعماء المنظمات الإسلامية عقدت في بيروت عام 2001 اتهمت عرفات بالعجز عن القيام بمهامه السياسية، وقادة الأجهزة الأمنية بالخيانة والعمالة لإسرائيل. وقالت أنباء وسائل الإعلام أن الإسرائيليين كانوا يعدون خطة لاغتيال عرفات عرفت بخطة "أورانين". غير أن الأميركيين لم يكونوا مع التغيير القسري في القيادة الفلسطينية. وهذا ما عبر عنه السفير الأميركي في إسرائيل دان كورتسر الذي قال إن على الفلسطينيين أن يغيروا بالطبع قيادتهم، إلا أن هذا يجب أن يتم من دون أية ضغوط[1]. وتساند الدول الأوروبية عموما مبادرات الأميركيين، وإن كانت نظرت بعين الريبة إلى اقتراح بوش إقامة "دولة فلسطينية مؤقتة". ومن بين الدول الأوروبية تبدي فرنسا وبريطانيا فقط حرصاً على تسوية المشكلة. موقف بريطانيا قلما يختلف رسمياً عن موقف الولايات المتحدة. إلا أن بريطانيا وفرنسا تحاولان إلى حد ما أن تنهجا سياسة مميزة حيال القدس. فكلتا الدولتين الأوروبيتين حريصتان على منح القدس وضعية دولية معينة (أقله الجزء التاريخي منها). أضف إلى هذا "المشروع" السري لفرنسا والفاتيكان الذي يقضي بتعزيز دور وأهمية الطوائف المسيحية في الشرق الأوسط، لا سيما في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين. هذا المشروع لم يجد بعد طريقه إلى النجاح منذ سنوات خمس. 5- مواقف الدول العربية الرئيسية من قضية الدولة الفلسطينية والتعاطي الأميركي معها. لم تستطع الدول العربية أن تقترح خططا مبدئية لحل القضية الفلسطينية. فكبرى الدول العربية لا تريد أن تلتزم بأية تضحيات تقدم على مذبح تسوية القضية. والعامل الأساسي لاعتكافها هو عجزها تجاه القدرة العسكرية الإسرائيلية المتنامية والضمانات الأمنية التي تقدمها لإسرائيل الولايات المتحدة. فحروب الستينات والسبعينات جرت في ظروف دولية وداخلية أخرى، في ظل وجود الاتحاد السوفياتي وأنظمة عربية يدعمها عسكريا واقتصاديا وسياسيا في إطار سياسة المجابهة مع الرأسمالية العالمية وإفرازاتها ومواقع نفوذها الأساسية ودعم ما سمي بحركات التحرر الوطني كرافد من روافد هذا الصراع. أما اليوم فليست هناك دولة عربية قادرة على تحمل أعباء مواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل. فمصر وسوريا، أكبر بلدين عربيين ذوَي قدرات عسكرية، تستبعدان كليا حرباً شاملة مع إسرائيل. وربما ردت سوريا على عدوان إسرائيلي على لبنان مثلا في إطار سياستها الإقليمية لإبعاد الخطر الإسرائيلي عنها حيث يمكن ذلك، غير أنها لن تتدخل لا هي ولا الأردن ولا السعودية في حال نشوء نزاع مسلح كبير في فلسطين. والدولة العربية الوحيدة التي كانت ذات مصلحة في نزاع مسلح مع إسرائيل هي عراق صدام، إذ إن الأخير كان يسعى إلى خلق جبهة ضد إسرائيل وأميركا من الدول العربية. غير أن الهدف الحقيقي للعراق في عهد الرئيس صدام حسين لم يكن تحرير فلسطين والقدس بقدر ما كان الخروج من العزلة بعد حرب عام 1990 وتوطيد مواقعه وتكوين حلف سياسي عسكري عربي تكون له فيه الكلمة المسموعة. وقد حصل في وقت ما تقارب سوري عراقي بعد طول فرقة تجسد في زيارة قام بها وفد سوري كبير برئاسة رئيس الوزراء السوري مصطفى ميرو إلى العراق وكانت لها أهمية كبيرة على صعيد آفاق تشكيل مثل هذا الحلف. وصرح نائب الرئيس العراقي ياسين رمضان ووزير الخارجية العراقي ناجي صبري آنذاك بأن العراق سيقدم كل دعم ومعونة لسوريا في حال شن إسرائيل عدواناً عليها. وفي خلال لقاء آية الله خامنئي والمبعوث العراقي عبد الساتر عز الدين الراوي صرح الطرفان أيضا بأن بلديهما سيقدمان الدعم لسوريا في حال بدء حرب مع إسرائيل. أي أن الأمور كانت تتجه نحو إنشاء حلف فعلي من سوريا والعراق وإيران، وإن كان فهم وتصور كل من البلدان الثلاثة للحلف السياسي العسكري مختلفين تمام الاختلاف. فالعراق كان أكثر المتحمسين. وسوريا أكثر المعتدلين. غير أنه كان من غير المستبعد أن ينشأ وضع يفرض على الدول الثلاث مجابهة إسرائيل معاً، وإن كانت سوريا وإيران حريصتين على بذل كل جهد ممكن لتحاشي مثل هذا النزاع. ولم يستبعد المحللون السياسيون أن تكون سوريا تريد من وراء هذا الحصول على وضع أفضل تنطلق منه لمحاورة الولايات المتحدة. وتحاول دول عربية أخرى، وفي طليعتها السعودية ودول الخليج، الانخراط في حلف إقليمي ما وإن كانت تجد نفسها دائما أسيرة النفوذ الأميركي. على وجه العموم ثمة موقف رسمي عربي حيال قضية فلسطين يندرج تحت اسم " مبادرة السلام العربية" المنبثقة عن قمة بيروت العربية في آذار عام 2002 وهو يتمثل في الآتي: - على إسرائيل أن تعود إلى حدود عام 67. - القدس يجب أن تصبح تحت السيطرة الإسلامية (يمكن أن تقبل وصاية دولية، ولكن في ظل هيمنة النفوذ الإسلامي). - اللاجئون الفلسطينيون، وأقله حتى مليون ونصف مليون منهم، يجب أن يمَكَّنوا من العودة إلى فلسطين. - الدولة الفلسطينية ينبغي أن تكون مستقلة فعلاً وذات قوات مسلحة وإمكانيات دفاعية. ولكن مع حلول نهاية العام 2002 باتت قرارات قمة بيروت العربية المتخذة في آذار عام 2002 تحت اسم " مبادرة السلام العربية" التي دعت إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا ما انسحبت هذه من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، وإذا ما فككت كل المستوطنات وأوجدت حلاً لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، في حكم المنسية تقريباً. فهذه المبادئ لا تتمسك بها الآن أية دولة عربية على الساحة الدولية. فالدول العربية عموما يناسبها وجود دولة فلسطينية ولو كانت منقوصة الحقوق في الأرض وفي قوات مسلحة كاملة الأوصاف والقدرات وفي إمكان وصول الحجاج المسلمين إلى المقدسات الإسلامية في القدس. والعالم العربي يدرك جيدا أن إسرائيل والولايات المتحدة ستبقيان تتمتعان بقدرة على التلاعب بالوضع غير محدودة ما دامت مصر محيَّدة ولا تشارك مشاركة نشطة في تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. .ولهذا أطلق الرئيس اللبناني إميل لحود في نهاية العام نفسه نداءه إلى الدول العربية كي "لا تنسى تلك القرارات". وفي هذا المجال أظهرت الدول العربية مجددا عدم مثابرة ودأب على تنفيذ القرارات التي تتخذها. ويمكن أن نوجز مواقف الدول العربية الرئيسية من قضية الدولة الفلسطينية بالآتي: موقف مصر إن مصر، الدولة العربية الأهم وزعيمة العالم العربي، هي الآن شريكة للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وهي تساند سياسة الولايات المتحدة. وما من شك في أن اقتراح بوش إقامة "دولة مؤقتة" في فلسطين كان قد تم التوافق عليه مع الرئيس حسني مبارك إبان زيارته واشنطن في حزيران عام 2002. فقد أصر مبارك آنذاك على إقامة الدولة الفلسطينية. وخلال العامين 2001-2002 انكبت مصر بنشاط على معالجة المهمة التي طرحتها إسرائيل والولايات المتحدة، مهمة إبعاد عرفات عن منصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وجرت في القاهرة لقاءات بين قادة الاستخبارات الإسرائيلية وقادة الأمن الفلسطيني الذين يمكن أن يصبحوا مرشحين لقيادة السلطة الفلسطينية في مستقبل قريب. ولا تصر مصر، مثلها مثل الأردن، على تسليم الدولة الفلسطينية المقبلة مدينة القدس الشرقية وإن كانت ساندت شكليا اقتراح السعودية إقامة الدولة الفلسطينية ضمن نطاق حدود العام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية. فمهمة مصر هي المحافظة على دورها الريادي في العالم العربي، وهو ما ليس ممكناً من دون المشاركة بنشاط في حل القضية الفلسطينية. ولم تكن مصر تسعى إلى استباق الأمور مدركة أن العجلة لن تؤمن لها هذا الدور. كما أنها كانت تدرك أن تجميد القضية الفلسطينية سيساعد على بدء العملية العسكرية ضد العراق، وهو ما سيؤدي إلى عواقب خطيرة تطاول كل الدول العربية. ولا تثق مصر كثيرا بخطط إدارة بوش، فسياسة كلينتون-أولبرايت كانت تفهمها أكثر وتجعلها في مواقع أفضل بكثير في السياسة العربية والإقليمية، وتتيح لها إقامة علاقات مديدة مع الدول الأوروبية والقيام بدور الحَكَم في العديد من الجدالات العامة والثنائية بين البلدان العربية. وليست مصر غنية بالموارد كالسعودية، فهي، كما هو معلوم، تعتمد اعتمادا كبيرا جدا على المساعدات المالية الأميركية. فعلى هذه المساعدات وعلى التعاون مع الولايات المتحدة عموماً يتوقف استقرار مصر سياسيا واجتماعيا. والمجتمع المصري يعتبر الأقل استقرارا في العالم العربي (إلى جانب الوضع في الجزائر). وأي تردٍّ في الوضع الاقتصادي مهما قل شأنه قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع وسقوط النظام الحالي.وهي لذا غير قادرة من دون المساعدات الأميركية المنتظمة ومن دون الدعم الأميركي للمصالح المصرية في المؤسسات المالية الدولية على تأمين الاستقرار في الداخل اقتصادياً واجتماعياً. وإن الحالة الصحية للرئيس المصري حسني مبارك وتعاظم دور تنظيم "الإخوان المسلمين" والحركات الدينية عموماً أمور لا تسمح للحكومة المصرية أن تتخذ قرارا ببدء مجابهة جدية مع إسرائيل. ومن غير الصحيح القول إن دور مصر في العالم العربي تضاءل في الآونة الأخيرة، غير أن شركاء لها كسوريا والسعودية يعملون لحجب دور الزعامة عنها في العالم العربي. وعلى الرغم من أن النظام السياسي في مصر أكثر ليبرالية، فإن زعماء شباباً أمثال بشار الأسد والعاهل الأردني الملك عبدالله وولي العهد السعودي الأمير عبدالله يعتبرون أن سياستهم (لا سيما الخارجية) هي أكثر تقدماً وتعصرناً وتوازناً. لقد بنت مصر سياستها الخارجية وعلاقاتها مع دول المنطقة والغرب في السابق على أساس ميزان قوى افترض في حينه وجود ثلاثة نماذج من الأنظمة والسياسات الخارجية هي: 1- شركاء الولايات المتحدة، بل حلفاؤها، في المنطقة وهم مصر والمغرب وتونس والأردن والسعودية وإمارات الخليج؛ 2- الدول التي تنهج سياسة تقع على مسافة ما من الولايات المتحدة، ولكنها سياسة مبدئية حيالها، وهي سوريا ولبنان والجزائر والسودان واليمن؛ 3- الدولتان اللتان كانتا تلعبان دور الخصمين الاستراتيجيين والأيديولوجيين للولايات المتحدة، وهما العراق وليبيا. فقد كان واضحاً أن الولايات المتحدة تسيطر على معظم العالم العربي. توازن القوى هذا كان يؤمن لمصر دوراً رئيسياً وزعامياً في العالم العربي، حتى في ظل تبلبل الوضع الداخلي فيها. ولقد جاءت حرب العراق لتغير ميزان القوى هذا في العالم العربي. فالعراق احتُلّ وباتت تحكمه حكومة موالية للأميركيين، وليبيا كقول المثل: "إن اللبيب من الإشارة يفهم" تراجعت عن سياستها المخاصمة للغرب مؤخراً والتحقت بالركب. وتضطر سوريا إلى التعاون أكثر فأكثر مع الولايات المتحدة تحت تأثير الضغوط المتزايدة عليها في الشأن اللبناني والشأن العراقي. كل هذا يؤدي إلى فقدان مصر أهميتها ودورها في العالم العربي كحليف "مركزي" للولايات المتحدة وكمركز سياسي وثقافي للعرب، وكدولة عسكرية ذات شأن. وإن أهمية الدول العربية عموما بنتيجة احتلال العراق تدنت بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولم يعد بينها من تعوّل عليه هذه كحليف استراتيجي لها، لا سيما خارج ساحة الشرق الأوسط. ولعل إسرائيل وتركيا ستدعّمان دورهما كحليفين استراتيجيين للولايات المتحدة (مع بعض التحفظ بالنسبة إلى تركيا). ويصعب تحديد مآل العلاقات الأميركية الإيرانية وإن كانت هذه العلاقات بعد فوز المحافظين في الانتخابات الأخيرة قد شابها التشنج. ومعلوم أن كبرى الدول العربية تعتبر إيران (باستثناء سوريا) عدواً لدوداً للعرب. غير أن الخطر الأكبر على النظام المصري قد يتأتي من ثورة إسلامية تشمل عددا من بلدان العالم العربي في آن واحد ويلعب فيها المجتمع المصري بالذات دوراً ريادياً. فلئن رافقت احتلالَ العراق وإقامة نظام فيه موال للأميركيين تنازلات مبدئية من جانب الدول العربية في شأن فلسطين والقدس، فإن قوة الثورة الجارفة هذه ستتضاعف. فالقيادة السياسية المصرية لن تستطيع أن تبرهن للمجتمع المصري والعربي إمكانية قبول الحلول المطروحة في شأن فلسطين والقدس إذا ما نفذت الخطة الأميركية الإسرائيلية. ولذا لا ترى مصر فائدة في تعجيل حل القضية الفلسطينية. والخطة التي اقترحها بوش في 25 حزيران عام 2002 و"خريطة الطريق" التي أقرها "رباعي الشرق الأوسط" عام 2003 وتستند إلى المشروع الأميركي تلائم مصر إلى حد ما كونها ترتكز على السعي إلى المماطلة أكثر ما أمكن في حل القضية حتى التوصل إلى ظروف أكثر ملاءمة لتأمين أكبر مربَح لإسرائيل في المجال السياسي وفي موضوع الأراضي. موقف سوريا وسوريا التي لعبت فترة طويلة دوراً رئيسياً في عملية التفاوض حول مشكلة الشرق الأوسط، وجدت نفسها بعد فشل المباحثات السورية الإسرائيلية عامي 1999-2000 مبعَدة إلى حد ما عن عملية التسوية. وقد "جُمِّدت" وجعِلت وكأنها مسألة غير راهنة قضية هضبة الجولان عملياً. وليست سوريا حاليا بحريصة على إحياء مسألة هضبة الجولان بقوة إذ إن هذا قد يفضي إلى دورة مجابهة جديدة ستتطلب إنفاقا ماديا ضخماً. ولا تستطيع سوريا أن تخوض نضالا سياسيا فعليا الآن لأجل استعادة هضبة الجولان. كذلك ليست لسوريا مصلحة في استعجال حل القضية الفلسطينية إذ إن الانتفاضة مفيدة لها سواء في الجانب الفلسطيني أو في الجانب الإسرائيلي. فإسرائيل مكتوفة اليدين بفعل الانتفاضة ولا يمكنها أن تتفرغ للبنان وللضغط على الدول العربية الأخرى. فيما التهديد الإسرائيلي المستمر للبنان من شأنه أن يبقي الأخير بحاجة إلى حمايتها. ولئن كانت سوريا وإيران قررتا معاً من حيث المبدأ وقف العمليات العسكرية لحزب الله ضد إسرائيل منعاً لضربات جوابية إسرائيلية وأميركية، فإن قدرات "حزب الله" لا تزال مثابة احتياطي في خدمة السياسة السورية. وتنتهج سوريا سياسة دعم عدد من المنظمات الإسلامية الراديكالية، فهي تدعم كل القوى والجماعات الراديكالية والمسلحة التي تحارب إسرائيل في فلسطين وفي لبنان. وهذا حتى الآن يناسب سوريا ويمنحها إمكانية تدعيم حججها في علاقاتها السياسية مع الولايات المتحدة. ولكنها تقيّد في الوقت نفسه نشاط هذه المنظمات جزئياً بما يحول دون توريطها في حرب شاملة. فأخشى ما تخشاه سوريا هو ان تورَّط في نزاع عسكري كبير مع إسرائيل. وهذا ما أدى إلى بعض التدني في أهمية دور سوريا في أوساط هذه المنظمات في لبنان وفلسطين. ويحاول الرئيس السوري بشار الأسد أن ينهج سياسة براغماتية مشدداً على تنمية التعاون الاقتصادي مع الدول الجارة في مسعى منه لتأجيل كأس الإصلاحات المرة التي تطالبه بها المعارضة الداخلية والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. وإن هذا ليفترض التخلي عن الحرب أسلوباً لمعالجة قضية هضبة الجولان المحتلة، وعقد صلح غير رسمي مع إسرائيل عملياً. وثمة اعتقاد أن أسس السياسة الخارجية السورية الحالية كانت قد وضعت إبان لقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس الأميركي كلينتون (عام 2000 في جنيف) حين تم التوصل إلى عدد من الاتفاقيات السورية الأميركية. ومع ذلك لا يمكن لسوريا أن تتخلى عن هضبة الجولان أو أن تقدم تنازلات كبيرة في شأنها. والوضع الداخلي لا يسمح بذلك. لذا يرى بعض المراقبين أن سوريا غير مهتمة بحل القضية الفلسطينية قبل أن تحل مشكلتها هي مع إسرائيل. ولكنها في الوقت نفسه مضطرة لأن تأخذ في الحسبان سياسة الولايات المتحدة ومقترحاتها. ومسألة القدس قلما تهم كمركز ديني إسلامي النظامَ العلماني السوري، لكن ما يقلق سوريا هو أن تبقى وحيدة في مواجهة إسرائيل (وربما في آن إسرائيل وتركيا) بنتيجة تسوية القضية الفلسطينية. وحتى بعد انسحاب إسرائيل من لبنان مؤخرا أبقيت مشكلة مزارع شبعا كفتيل مشتعل يحفظ الصراع قائماً بين لبنان وإسرائيل إلى أن تحل "أزمة الشرق الأوسط برمتها"، أي ضمناً إلى أن تحل مشكلة الجولان. ويمكن في مجال التعاطي الأميركي مع مواقف سوريا أن نورد بعض الأفكار وهي: أ‌- الولايات المتحدة لا ترغب بناء علاقاتها مع سوريا من خلال النزاع الإسرائيلي الفلسطيني ومشكلة الجولان، بل هي تعمل على حصر هذه المشاكل وعزلها بعضها عن بعض. ب‌- الولايات المتحدة لا ترغب بناء علاقاتها مع سوريا أخذاً للنظام الحالي في الحسبان وإن كانت مهتمة بتطوير الإصلاحات الاقتصادية والسياسية فيها، بل هي تبغي إيجاد تقليد في تعزيز العلاقات معها بمعزل عن النظام الحالي. ت‌- الولايات المتحدة باحتلالها العراق احتلالا مباشرا سعت إلى منع سوريا من إقامة حلف معه ومع إيران. ث‌- خلافا لإدارة الديموقراطيين التي كانت تسعى إلى ضم سوريا إلى نظام علاقات إقليمية جامعة يريد الجمهوريون بناء علاقات مع سوريا غير مثقلة بمشاكل المنطقة. ج‌- من الملفت أن الإدارة الجمهورية لم ترد أن تلتقي البطريرك صفير إبان زيارته الولايات المتحدة ومحاولته بدء حوار مع القادة الأميركيين حول انسحاب القوات السورية من لبنان، وكأنها أرادت أن تفهِم لبنان وسوريا أنها لا تعتزم التدخل في هذه القضية والإضرار سياسياً بسوريا. غير أنها بعد احتلال العراق وعدم تعاون سوريا معها راحت تضغط عليها بقوة من خلال لجنة الكونغرس بداية والآن على صعيد السياسة الخارجية الرسمية وتهددها بالعقوبات وتستعدي الأمم المتحدة عليها من خلال القرار 1559 لأجل إخراجها من لبنان. ولعل هذا من أجل حث سوريا على التعاون مع الولايات المتحدة في الشأن العراقي. ح‌- تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا كعنصر هام من عناصر الابتزاز الدائم لتركيا، تتزايد أهميته مع إطلاق استراتيجية الحد من استقلالية السياسة الخارجية التركية من قبل الأميركيين. خ‌- يسعى الحزب الجمهوري إلى تحقيق تجربة تغيير داخلي في النظام الحاكم في سوريا سلمياً ومن دون مصادمات وكوارث سياسية. د‌- يمكن افتراض أن الولايات المتحدة ترغب في أن تقيم مستقبلا في سوريا قواعد جوية بديلة عن قواعدها في تركيا والسعودية. ذ‌- ربما كان من أهداف الولايات المتحدة أيضا نقل الصيغة الطائفية اللبنانية إلى سوريا كأسلوب في إدارة هذه الدولة. وما تفعله في العراق خير دليل على توجهها هذا الذي تمكن عنونته بـ"فرق تسد!". ر‌- الأهداف النهائية للولايات المتحدة هي أن ترى سوريا دولة عاجزة عسكرياً يضعف فيها دور العسكر في السياسة، دولة غير قادرة على استعادة الجولان المحتل بقوة السلاح، دولة جيشها تحت السيطرة الأميركية، تنحصر همومها ضمن إطار المصالح الوطنية الضيقة فتنعزل عن القضايا العربية العامة. موقف السعودية أما السعودية فقد وجدت نفسها مؤخراً في مواجهة مشاكل مثل فقدان وحدة الدولة وانهيارها. فالمملكة تنتشر فيها الأفكار والأجواء الليبرالية الغربية. وقد نشأت خلال السنوات العشرين الأخيرة طبقة متوسطة ذات شأن تلقت تحصيلها العلمي في الغرب، وتضم مثقفين وجال أعمال وبعضاً من رجال الدين ومالكي الأراضي الصغار. هذه الطبقة باتت تؤثر أكثر فأكثر في كيفية اتخاذ الحكومة السعودية أهم القرارات السياسية. وفي الوقت نفسه يتعزز اتجاه معاكس هو ازدياد نفوذ ما يسمى بـ"الحزب القومي العربي الإسلامي" برئاسة وزير الخارجية الأمير عبدالله الذي يراهن أكثر فأكثر على القومية العربية والأفكار الأصولية. وتصطدم الأسرة المالكة ببدء تشكّك المجتمع السعودي أكثر فأكثر في قدرتها على قيادة البلاد بفاعلية. وتلفت وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية أكثر فأكثر إلى أن هناك معارضة سعودية ظاهرة ومستترة، وإلى أن هناك مشاكل في جنوب شرق البلاد حيث تعيش أقلية شيعية. وأخطر ما لدى أوساط المعارضة من مطالب تنعكس سلباً على الولايات المتحدة مطلب الحد من كميات النفط المستخرجة بما يكفي لعيش كريم للشعب وتطوير باقي فروع الاقتصاد السعودي. هذا الرأي تتمسك به أيضا المعارضة الدينية وحزب الأمير عبدالله الذي يدعو إلى "طريق" جديد يفترض الذود عن أولويات الأمة والمبادئ الإسلامية في تنظيم المجتمع. ومما يزيد الأجواء شحناً أن الأميركيين، في معرض محاولتهم الاستفادة من المعارضة الليبرالية للنظام السعودي كعامل هام من عوامل تشكل الآفاق السياسية في المنطقة، راحوا يروجون في وسائل الإعلام لفكرة عدم شرعية سلطة الأسرة المالكة في السعودية، ملمحين إلى أنها "نشأت من العصابات" التي استولت على السلطة في الجزيرة العربية عنوة، وأنها لا يحق لها تالياً أن تطمح إلى دور الأمين على الحرمين في مكة والمدينة، وعلى القدس الشريف. غير أن الفكرة الأشد خطراً على المملكة هي إمكان فصل المناطق النفطية في شرقي البلاد عن منطقة الحجاز حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة وجعلها إمارة مستقلة أو تسليمها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، علماً أن الهاشميين يعتبَرون من سلالة النبي محمد، نبي المسلمين، أو ربما تقسيمها إلى جزئين سني وشيعي يتقاسمان احتياطيات النفط، ويتحولان في ظل عدم وجود المدينتين المقدستين لدى المسلمين ضمنهما إلى دولتين علمانيتين على شاكلة الإمارات العربية الأخرى في الخليج، قليلتي تعداد السكان ما يسهّل إدارتهما ويزيد تبعيتهما. وينتيجة تنفيذ مثل هذا المخطط ينشأ وضع جغراسياسي جديد وتوازن قوى جديد في المنطقة. ويمكن افتراض أن الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل تستخدمان هذه الدعايات لأجل ابتزاز السعودية وبعض الدول العربية الأخرى. فالسعودية الطامحة دوماً إلى دور الزعامة في العالمين العربي والإسلامي تصبح مشكلة معقدة للولايات المتحدة لأنها لم يعد بمقدورها إزاء ذلك أن تبقى على تبعيتها الشديدة لها. إن اقتراح الأمير عبدالله ولي العهد السعودي إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967 بمقابل اعتراف الدول العربية بإسرائيل جعل إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة في مأزق. فهذا الاقتراح غير مقبول البتة في إسرائيل لأنه يحرمها من حدود يمكن الدفاع عنها ويهدد وجودها نفسه. بينما هو مقبول بين الكثيرين من العرب، حتى الراديكاليين منهم. فهو يبقى إذاً موجهاً "للاستهلاك الداخلي"، أي للمجتمع العربي. كما أنه مهم للأمير عبدالله شخصياً كولي للعهد في السعودية، وكطامح إلى لعب دور زعيم وطني على صعيد العالم العربي ككل. وبالنسبة إلى الأسرة المالكة في السعودية المعتبرة نفسها حامية المقدسات الإسلامية، والقدس الشريف من بينها، لا يمكن أن تكون ثمة تسوية من دون القدس، تسوية تنتسى فيها حقوق المسلمين في هذه المدينة. واقتراح إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود العام 67 يفترض سيطرة العرب على القدس الشرقية. موقف الأردن أما الأردن فشريك أمين للولايات المتحدة. وقد تخلت القيادة السياسية في هذا البلد الذي 60 بالمائة من سكانه فلسطينيون عن أي مطمع بالقدس على الرغم من أن الأسرة الهاشمية المالكة تعتبر نفسها من سلالة النبي محمد وحامية المقدسات الإسلامية في القدس. ويتعاطى الأردن بسلبية مع النشاط الراديكالي للمنظمات الفلسطينية الدينية والسياسية، وهو مستعد للموافقة على أي اقتراح أميركي أو إسرائيلي يفضي إلى تسوية النزاع وإلى التعاون اقتصادياً مع إسرائيل. فإسرائيل من حيث نزعتها الليبرالية وتمسكها بالقيم الغربية أقرب بكثير إلى الأردن من معظم الدول العربية الأخرى. وقد طبّع الأردن علاقاته مع سوريا لا سيما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وأقام علاقات ود وشراكة مع عراق صدّام وهو يسعى إلى تسوية شاملة في المنطقة. فالأردن مقبول لديه مثلا اقتراح بوش أقامة "دولة مؤقتة" في فلطسين. ويلعب الأردن في الوقت نفسه دورا مهماً كساحة تفاوض و"جوجلة" لشتى المشاريع على رغم دوره المتواضع في السياسة الإقليمية. ولا تفتأ الولايات المتحدة وإسرائيل تحاولان إحياء فكرة ضم الأراضي الفلسطينية إلى الأردن المستعد لتقديم تنازلات كبيرة في شأن القدس. وإذا أخذنا في الحسبان أن ما بين 55 و60 بالمائة من سكان المملكة الأردنية الهاشمية هم الآن من الفلسطينيين، فإن اتحاد ضفتي الأردن الشرقية والغربية سيؤدي إلى أن يصبح البلد فلسطينياً. بيد أن هذا المشروع لا يقبله الآن الفلسطينيون وتنظيماتهم السياسية الأساسية. كما أن ثمة في الأردن، على الرغم من مكافحة الحكومة للراديكاليين الإسلاميين، تنظيمين إسلاميين قويين هما حزب التحرير الإسلامي وحزب "الإخوان المسلمون". الأول مناهض للحكومة ويسعى إلى إقامة دولة إسلامية في الأردن، والثاني منظمة تقليدية تنتمي إلى جماعات "الإخوان المسلمين" المنتشرة في كثير من الدول العربية. وهو يتعاون مع الحكومة إلى حد ما وممثَّل في البرلمان. هذان الحزبان ذوا نفوذ قوي ويعارضان أي تنازلات في شأن القدس، ويحذران الملك والحكومة باستمرار من مغبة الاسترسال في التقارب مع إسرائيل والتنازل في مسألة مقدسات المسلمين في فلسطين. ويبدو أن مشروع الاتحاد الأردني الفلسطيني قد يعود مجددا إلى الواجهة مع تعثر قيام الدولة الفلسطينية. [1]

الفئة: مقالاتي | أضاف: Michelya (18.01.2011) | الكاتب: ميشال يمين E
مشاهده: 338 | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0