الرئيسية » مقالات » مقالاتي

الدولة الفلسطينية الضائعة بين التسويف الأميركي والرفض الإسرائيلي والعجز العربي - 3

6. مشاريع إقامة الدولة الفلسطينية بذلت الإدارة الأميركية خلال السنوات الأخيرة من ولاية كلينتون (1998-2000) محاولات لتسوية القضية الفلسطينية نجمت عنها صياغة مشروع أميركي- إسرائيلي عمليا لإقامة دولة فلسطينية. وقد كان مفترضا لهذه الدولة أن تكون كياناً مسخاً مقسماً إلى أربعة أقسام منفصلٍ بعضها عن بعض ومن دون القدس ودون أية مصادر جدية للمياه وأية قاعدة مادية للوجود. وراهن الأميركيون والإسرائيليون على كون الفلسطينيين قد تكيفوا إلى حد ما مع المجال الذي حدِّد لمنطقة الحكم الذاتي الفلسطيني ومع واقع علاقة الخضوع لإسرائيل. هذه الدولة المفترضة ضمت 3 جيوب في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث يقطن قرابة 3 ملايين ونصف المليون من أصل أكثر من 4 ملايين و200 ألف فلسطيني يعيشون في كل أراضي فلسطين، في إسرائيل وفي منطقة الحكم الذاتي. وافترضت خطة الأميركيين والإسرائيليين عودة ما لا يزيد على 50 ألف لاجئ فلسطيني من الخارج إلى فلسطين في خلال مرحلة محددة. كما افترضت أن تبقى مصادر المياه الأساسية، أي بحيرة طبريا وغيرها، تحت السيطرة الإسرائيلية. ولا يحق للدولة الفلسطينية حسب المشروع أن تكون لها قوات مسلحة حقيقية، بل حرس مسلح لا أكثر عمليا. ولا يمكن أن يجيء إلى أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة عدد كبير من اللاجئين. ونتيجة كل هذا أن يؤتى بدولة فلسطينية لا حول لها ولا قوة، دولة قسمتها ونصيبها أن تبقى متكاملة اقتصاديا وسياسيا مع إسرائيل، وأن يبقى سكانها مثابة احتياطي رخيص لليد العاملة الإسرائيلية. وستفقد فلسطين بذلك كل اهتمام بها من جانب العالمين العربي والإسلامي كطليعة للنضال من أجل المصالح الإسلامية في القدس. ولم يكن بمقدور القيادة السياسية الفلسطينية، وعلى رأسها ياسر عرفات، أن توافق على مشروع التسوية هذا فتتحول إلى شاهد زور ووالٍ على شعبها يمثل سلطة غريبة. ففي أيلول عام 2000، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، رفضت القيادة الفلسطينية مواصلة التفاوض واتخذت قراراً ببدء الانتفاضة الثانية. هذا القرار كان قرارا صعباً بالنسبة إلى عرفات والقيادة الفلسطينية، إذ هو كان إعلان حرب على إسرائيل عمليا. غير أن عوامل اتخاذ ذلك القرار لم تكن فقط متجسدة في مواقف ونوايا إسرائيل والولايات المتحدة، بل أيضا في مواقف الدول العربية. ففي سياق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تحت رعاية أميركية باتت مواقف الدول العربية تضحي أكثر فأكثر ميلا إلى التراجع والتساهل مع الواقع. ولم يكن بعض التصريحات من جانب السعودية وغيرها من الدول العربية حول دعم القيادة الفلسطينية ليشكل دليلا على استعداد هذه الدول للوقوف موقفا أصلب وأكثر تشددا حيال الولايات المتحدة. العراق (في ظل صدام) دعم الفلسطينيين، ولكنه لم يكن قادرا على التأثير سياسيا في مسار التسوية. مصر والأردن اتخذتا موقفا ممالئا صراحة للولايات المتحدة وكانتا جاهزتين عمليا للقبول بأية صيغة تسوية وأي نموذج للدولة الفلسطينية. الدور الأساسي في دعم الفلسطينيين لعبته سوريا وإيران اللتان قدمتا الدعم الفعلي مالا وسلاحاً. غير أن العراق وإيران ما كانا لاعبين في الساحة السياسية الفعلية بقدر ما لعبا دوراً في سياق النشاط المسلح، ولذا لم يكونا قادرين على التأثير في سياق المفاوضات السياسية إلا من خلال هذا النشاط إياه. وتبقى سوريا الطرف المهم في التفاوض وتسوية نزاع الشرق الأوسط عموما، ولكن دورها ليس دائم الفاعلية. 7. أهداف الولايات المتحدة ومهامها في المنطقة قد ينشأ انطباع من اقتراح بوش إقامة دولة فلسطينية "مؤقتة" أو "انتقالية" بأن ثمة متغيرات في السياسة الأميركية كمثل القول بتنشط هذه السياسة والتخلي عن النوايا "الانعزالية" السابقة لإدارة بوش. إلا أن هذا الاقتراح يؤكد ما سبق لزعماء الإدارة الجمهورية أن أعلنوه من نهج يقضي بالاعتكاف ما أمكن عن معالجة النزاعات الإقليمية ما لم يكن هذا يمس الأمن القومي الأميركي مباشرة. وهي لذلك لا تريد الانغماس كليا في التسوية، مثلما كانت تفعل إدارة كلينتون، فتتحمل كامل المسؤولية عن نتائجها. فأوكلت إلى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني مهمة التوصل إلى اتفاقية معينة بعد أن يكلاّ من صراع مسلح مديد وغير مجدٍ، ودون أن يكون للولايات المتحدة دور ذو شأن. هذا الموقف من شأنه "نزع" المسؤولية عما يجري عن كاهل الولايات المتحدة وخفض حدة التوتر إلى حد ما بين الولايات المتحدة والدول العربية. ورمت اقتراحات بوش حول الدولة "المؤقتة" إلى تهيئة الظروف أكثر لأجل التفرغ للحرب على العراق، وإلى إيجاد حلبة سياسية جديدة تجر أكثرية الدول العربية والأوروبية وروسيا إلى عملية تسوية مسدودة الآفاق وغير واقعية يكون من شأنها فقط أن تخفض نوعاً ما من حدة التوتر في المنطقة وعداء العرب للولايات المتحدة على أبواب حرب العراق. مثل هذا الموقف راق لإسرائيل التي أعطيت الضوء الأخضر لمواصلة تنفيذ خطة شارون الرامية إلى القضاء على أكثر ما أمكن من القوات المسلحة للمنظمات الفلسطينية وبناها التحتية، وإيجاد وضع لا يطاق في ظله عيش الناس، وتهجير الفلسطينيين بما يجبر المنظمات الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني في نهاية المطاف على التعاون مع إسرائيل. وهكذا تم تنسيق الاقتراح الأميركي مع شارون، ولم يكن إلا منسجماً مع خطط إسرائيل. وبديهي أن اقتراحاً كهذا ما كان ليطرح من دون إعطاء الولايات المتحدة إسرائيلَ ضماناتٍ أمنيةً أكيدة وسلاحا وعتاداً تتفوق فيهما على العرب. وهو يؤكد تماماً أن الولايات المتحدة لا تسعى حتى إلى إقامة علاقات "متساوية" ولو ظاهرياً مع كل من إسرائيل والدول العربية، ويقرر سلفاً أن تكون إسرائيل مثابة الشريك الجغراستراتيجي لها ذي الأولوية في المنطقة. وقد جندت الأوساط السياسية والاجتماعية اليهودية في الولايات المتحدة مجدداً، بعد ارتباك أحدثته تفجيرات الحادي عشر من أيلول، كل إمكاناتها كَلوبي يهودي لجعل بوش يتخذ مثل هذا القرار. ولم يكن بوش بوارد الدخول من دون مبرر في مواجهة مع الأوساط اليهودية الأميركية، وهو ما لعب في حينه دوراً سلبياً على صعيد المستقبل السياسي لوالده. غير أن حسابات إدارة بوش بنيت على الأغلب على تصورات أخرى في مجال السياسة الخارجية. فاقتراح بوش إياه قديم، كان قد درس بإسهاب من قبل مراكز التحليل والدراسة في الولايات المتحدة وهو لم يكن ليشكل تعاطيا جديدا وفريداً من حيث المبدأ. وكل سياسة إدارة بوش كانت ترمي في المضمون إلى تجسيد هذا التعاطي بالذات. فهي أخذت في حساباتها بادئ ذي بدء كون تعاون الولايات المتحدة مع الدول العربية قد بلغ حده الأقصى، ولن يكون بالإمكان أكثر مما كان من تقارب مع هذه الدول. فالعلاقات مع كل من مصر والسعودية لا تزال على استقرارها ولا يسعى هذا البلدان فعلاً إلى مزيد من الاستقلالية عن الولايات المتحدة. أما سوريا التي أقامت علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة فالتحدث عن تشارك استراتيجي معها كان إفراطاً في التفاؤل. وهو أمر أثبتته القرارات التي اتخذها الكونغرس لاحقا حول فرض عقوبات على هذا البلد والقرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة تحت الضغط الأميركي. وتسير الدول العربية الأخرى (باستثناء لبنان المتضامن على مسار واحد مع سوريا) بعد احتلال العراق، وبعد أن أبدت ليبيا رغبة بالتعاون تعاوناً وثيقا مع الغرب، في ركاب السياسة التي تقترحها مصر والسعودية. ولم تنجح الولايات المتحدة في ضم الدول العربية إلى تحالف جديد مناهض للعراق مثلما كان الأمر في الحرب الأولى التي شنت عام 90 على هذا البلد العربي. وهذا هو أقصى ما كان يمكن للدول العربية أن تفعله في ظل عجزها. خلال هذه الظروف يبقى تعاون الولايات المتحدة مع إسرائيل وتركيا في المنطقة أمراً لا بديل عنه. وأي تنازل إضافي يقدَّم للعرب في شأن القضية الفلسطينية كانت الإدارة الأميركية تعتبره غير ذي معنى ومضعفاً لمواقع إسرائيل. وليس من شأن هذا وحسب أن يفتح الوضع على آفاق ما غير محمودة، بل هو يضر بقدرات إسرائيل العسكرية والسياسية ويفضي إلى بلبلة في داخل المجتمع الإسرائيلي وإلى تنامي العداء للولايات المتحدة في إسرائيل وبين اليهود في العالم. لم يلق عرض بوش صدى استحسان وتعرض لانتقادات شديدة من قبل حتى أقرب المقربين للولايات المتحدة، وبينهم بريطانيا. ولم يحظ هذا الاقتراح بشعبية طبعاً بين الفلسطينيين والعرب عموما. فقط إسرائيل كانت راضية عن مبادرة بوش. في هذا الصدد لا بد من استشفاف الأهداف والمهام الحقيقية للولايات المتحدة في المنطقة وكيف أن اقتراح بوش للدولة "المؤقتة" كان مفترضا أن يساعد على تحقيق الخطط الأميركية. يبدو لنا أن اقتراح بوش ارتكز على مقولة أميركية مبدئية حول عدم إمكان التحاور مع ساسة ومنظمات ودول تحمي، برأيها، التطرف والراديكالية والإرهاب أو تستخدم هذا الثالوث المقيت برأيها. ونظراً لتوفر عوامل هذا التطرف في منطقة الشرق الأوسط بفعل تراكم القضايا غير المحلولة كان على الولايات المتحدة أن تواجه مهمة صعبة التنفيذ لإزالة هذه العوامل. وهي اصطدمت بمشاكل التطرف والراديكالية في أفغانستان وتعلمت منها درساً هاماً أظهر خطر التعاون وانسداد آفاقه مع حركات وأنظمة سياسية مماثلة يمكنها في عالمنا المعاصر أن تستخدم مصادر تمويل وتسليح مستقلة عن العالم الغربي. لذا تعتبر الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب" مثابة مهمة شمولية وأساسية، تبهت معها أهمية القضية الفلسطينية لتضحي قضية محلية وجزئية. وهكذا نرى أن إحدى مهام السياسة الخارجية الأميركية هي هذا بالذات، أي حصر مشاكل مماثلة لا صلة لها مباشرة بالأمن القومي الأميركي، ضمن حدود المنطقة التي تبرز فيها. كما أنها تحاول أن تلقي عن كاهلها جزءا من المسؤولية عن هذه المشاكل لتحمّلها لحلفائها الأوروبيين والدول العربية، ومن هنا كانت "خارطة الطريق". وهي على صعيد القضية الفلسطينية بالذات تسعى إلى حصرها ضمن إطار العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وجعل كل مسعى أوروبي أو عربي أو حتى روسي في هذا المجال يبقى من دون معنى. ومرد هذا إلى أن الظروف التاريخية الجديدة تجعل من القضية الفلسطينية فعلا قضية أقل شمولية وربما حتى ذات طابع محلي، ومشاركة الولايات المتحدة النشطة من شأنها وحدها أن تشكل عاملا هاماً جدا لرفع مستوى المشكلة إلى مرتبة "المشكلة الدولية". ولا تنظر التنظيمات السياسية الإسلامية الراديكالية والمتطرفة، وخصوصا تلك التي تتسم بطابع الحركات الدولية الكوسموبوليتية، إلى القضية الفلسطينية كهدف أسمى لها. وتبقى مسألة القدس طبعاً مسألة هامة جدا للعالم الإسلامي، ولكن القدس ليست لسوى إيران أولوية من أولويات "الجهاد الإسلامي". ولا بد من التنويه بأن ممول ومنظم أكبر المنظمات والحركات الإسلامية الراديكالية الدولية يركز انتباهه وجهوده لا على القدس وفلسطين، بل على مناطق واتجاهات جغراسياسية أخرى تماما مثل شمال القوقاز وأفغانستان – كشمير وأفغانستان – آسيا الوسطى والبلقان. ففي هذه الاتجاهات بالذات، ولا سيما في منطقة القوقاز وقزوين تتركز المصالح الاستراتيجية للسعودية وشركائها من دول الخليج. وفيما عدا المصالح الجغرافية السياسية والاقتصادية للسعودية تكتسب الحركات الإسلامية الأصولية طابعاً شمولياً يرتبط بقضية السلطة في بلدان مثل مصر والأردن وسوريا والجزائر وتركيا وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، بل إلى حد معين في معظم البلدان الإسلامية. فالصراع السياسي الاجتماعي الذي تخوضه الحركات والتنظيمات الإسلامية مع الأنظمة القائمة يضحي المشكلة الرئيسية في داخل هذه البلدان، وهو ما يبعد المشاكل الجغراسياسية عن اهتمامات الإسلام السياسي. وتتمتع الحركة الإسلامية الأصولية حتى الآن بقدرة كبيرة على الانتظام والفعل. ولا تزال ترفض التنازل لخصومها. ومع توسع رقعة نشاط التنظيمات الإسلامية الراديكالية تتدنى أهمية فلسطين. ولذا يمكن أن تجد الولايات المتحدة نفسها خاسرة إذا ما "سلّمت" إسرائيل ومواقعها في الشرق الأوسط وأن تصطدم بتعزز الكفاح المناهض للأميركيين كرد فعل على "ضعف" الولايات المتحدة. وليس ما يحث هذه الأخيرة على أن تترك مجالا للشك في شأن أمن إسرائيل ووجودها لأجل أن تحل واحدة من مشاكل العالم الإسلامي دون غيرها. كما أن تضاؤل حدة الصراع مع إسرائيل سيجلب تقويته مع الولايات المتحدة نفسها وشركائها في الشرق الأوسط والمناطق المحاذية. وقضية فلسطين تستهلك الكثير من قوى وجهود المنظمات الإسلامية، ولذلك لن تتمكن الولايات المتحدة في القريب من إيجاد بديل لإسرائيل في المنطقة يكون بنفس القوة والنمو الاقتصادي والقدرة العسكرية. وهذا أمر تزداد أهميته في ظل تأرجح الأوضاع في تركيا ونشوء خطر خروجها عن السيطرة. ولا بد من التنويه بأن القيادة السياسية الفلسطينية ومعها حركة المقاومة الفلسطينية لم تكن يوماً لتنال ثقة وعطف الحركات الإسلامية ودول العالم الإسلامي الرئيسية التيوقراطية. ذلك أن المجتمع الفلسطيني كان دوما مجتمعا علمانياً على العموم. وحتى تزايد شعبية المنظمات الإسلامية في فلسطين مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الآونة الأخيرة لا يمكنه أن يؤدي إلى تبوئها وضعاً ريادياً في حركة المقاومة الفلسطينية وفي المجتمع الفلسطيني. وهي بدورها ليس يسعها إلا أن تأخذ في الحسبان التوجه العلماني للشعب. في هذا السياق يضحي تهميش القضية الفلسطينية بين قضايا العالم العربي والإسلامي مهمة واقعية تماماً بالنسبة إلى الولايات المتحدة إذا ما عرفت هي وإسرائيل كيف تتصرفان سياسياً، وبدعم من دول عربية كمصر والأردن. ويمكن هنا أن تعول الولايات المتحدة على دور لسوريا في هذا المجال، وهي التي تحت ضغط الوضع الدولي المعاصر تنهج سياسة موازنة المواقف، هذه السياسة التي وضع أسسها الرئيس الراحل حافظ الأسد. إن عناد واشنطن حيال التطرف والراديكالية تقرره ضرورة مواصلة الصراع ضد المنظمات التي تعتبرها إرهابية في بلدان الشرق الأوسط. وهي تضع سوريا ولبنان في رأس قائمة الدول التي ستضغط عليها بحجة إيوائها الإرهاب، لا سيما بعد أن أدرجت "حزب الله" ضمن هذه القائمة. وقد بدأت منذ صيف العام 2002 حملة ضغوط مكثفة على لبنان وسوريا مطالبة إياهما، ومعهما إيران، بكف نشاط حزب الله ووقف الدعم الذي يقدمه للتنظيمات الإسلامية الراديكالية في الأراضي الفلسطينية. وهذا يعتبر بالنسبة إلى لبنان، وخاصة إلى سوريا، أمراً غير قابل للتنفيذ عمليا. فحزب الله في لبنان قوة سياسية مهمة تحتضنها الطائفة الشيعية ولها ممثلوها في المجلس النيابي وكتلتها القوية، كما لها علاقات بالعديد من الدول، ولا سيما بسوريا وإيران، وتشكل تنظيما مسلحا قويا. وإن ضغط الحكومة اللبنانية على حزب الله قد يؤدي إلى استئناف الحرب الأهلية والتواجه السياسي، علما أن السلم الأهلي لا يزال هشاً في ظل التناقضات السياسية الحالية وفي ظل انعدام النمو الاقتصادي عمليا. وبما أنْ لا وجود للجيش اللبناني في الجنوب، فإن الحدود تبقى تحت سيطرة الفصائل المسلحة التابعة لحزب الله. وتطالب الولايات المتحدة الرئيس اللبناني صراحة بضرب البنى العسكرية لحزب الله، وهذا يعني على الأرجح أن تتواجد قوات أميركية على الأراضي اللبنانية ما دامت الحكومة اللبنانية، برأيهم، عاجزة عن حل هذه المعضلة بنفسها. وسيكون صعبا أيضا على القوات السورية المتواجدة في لبنان أن تحل هذه المعضلة. هذا علماً أن العلاقات مع المنظمات الإسلامية الراديكالية ودعمها في كل من لبنان وفلسطين عنصر غاية في الأهمية من عناصر سياسة سوريا داخليا وخارجياً. وإن تورط سوريا في صراع مع هذه المنظمات سيفقدها مواقع هامة في العالم العربي، وسيسيء إلى علاقتها بإيران. إلا ان الولايات المتحدة تعتبر أن لبنان هو الحلقة الأضعف بين الدول العربية حيث تنشط شرعيا أو بصورة غير شرعية منظمات إسلامية راديكالية سنية وشيعية. وعلى الرغم من أن سوريا تعتبر تقليدياً دولة عربية ذات قدرات عسكرية وواحدة من كبرى أربع دول عربية، فإن وضعها السياسي والعسكري والاقتصادي يشهد بعض الوهن في الآونة الأخيرة، ما اضطرها مؤخرا إلى تقديم بعض التنازلات لتركيا حفاظاً على أمنها القومي. لذا يمكن اعتبار سوريا كلبنان إلى حد ما بلدا يعتوره بعض الضعف. ومن المحتمل أن يكون الأميركيون يرون أن مهمة تصفية المنظمات الراديكالية الإسلامية وبناها التحتية هي مهمة واحدة عسكرية الطابع في لبنان وسوريا معاً، وقد تقوم الولايات المتحدة نفسها بمعالجتها، أو ربما قامت بهذه المهمة إسرائيل بدعم أميركي. ويعتقد المراقبون أن هذا الأمر قد يحصل في سياق عملية عسكرية ضد لبنان وسوريا تبدأ بعد الفراغ من العراق. غير أن لبنان وسوريا تتمركز فيهما أنشط المنظمات الإسلامية الراديكالية وهما اللذان كانا ساحة لنشاط هذه المنظمات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن المشكوك فيه أن تستطيع الولايات المتحدة قريبا التخلص من عثرة المستنقع العراقي، ولعلها ليست في وارد عملية عسكرية ضد لبنان وسوريا الآن، ولربما حاولت الاستعاضة عنها بـ"ثورة مخملية" على شاكلة "الثورة الوردية" في جورجيا و"الثورة البرتقالية" مؤخراً في أوكرانيا. ولها من المعارضة القوية اليمينية وغير اليمينية للحكم الحالي، وبين مختلف الطوائف والزعامات السياسية والطائفية، ومن التذمر الشعبي من الأحوال المعيشية المتردية، ما يؤاتي أغراضها في محاولة لـ"فصل المسارين" اللبناني والسوري وإخراج سوريا من لبنان جيشا ونفوذاً عبر "ثورة مخملية" جديدة. لقد جعل احتلال العراق وما رافقه من تحد سافر للعالم العربي ومحاولات لتغيير مجمل الخريطة السياسية فيه عبر شعارات من مثل إشاعة الديموقراطية والتحديث وغيرها طاولت حتى دولا حليفة تقليديا لأميركا كالسعودية، ومن ضغوط يتزايد اشتدادها يوما بعد يوم على لبنان وسوريا ويورَّط فيها الأمين العام للأمم المتحدة نفسُه، بريق القضية الفلسطينية يخبو بما لهذه التحركات من أهمية سياسية واقتصادية بالنسبة إلى العالم العربي ككل. ويستبعد الخبراء والساسة العرب والأوروبيون من حيث المبدأ تورط إسرائيل في عمليات الولايات المتحدة العسكرية في الشرق الأوسط، لافتين إلى عدم جدواه وخطورته على الولايات المتحدة. وقد كانت كل محاولات إسرائيل للانضمام إلى الحرب الأميركية البريطانية ضد العراق تلقى رفضا من الجانب الأميركي. كما كانت تلقى رفض الولايات المتحدة محاولة إسرائيل معالجة بعض المهام العسكرية التكتيكية بالتعاون مع تركيا، بما في ذلك ضربات توجه إلى سوريا وإيران وعراق صدام. غير أن التطورات في المنطقة ربما غيرت مسار السيناريوهات المطروحة وجعلت مشاركة إسرائيل في عمليات عسكرية أمراً غير مستبعد. ومهمة إسرائيل الأولى ستكون تدمير المنشآت ذات التقنيات المتطورة في إيران وقواعد المنظمات الراديكالية الإسلامية وكذلك الأسطول البحري الحربي الإيراني الذي تعتبره إسرائيل خطِراً جداً عليها. وفي سياق البرهنة على تدني أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة لا بد من أن نأخذ في الحسبان أن الولايات المتحدة تدرك على الرغم من جبروتها أنها غير قادرة على حل كل المشاكل العالمية والإقليمية انطلاقا من مواردها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وسيكون على الولايات المتحدة أن تختار أولوياتها في مجال سياستها في المنطقة أيضا وتتجاهل بعض القضايا لأجل معالجة تلك التي يتوقف عليها أمنها القومي. وهي بذلك تعزف عن معالجة مشاكل إقليمية في جنوب القوقاز وفي أسيا الوسطى وفي فلسطين وحتى في منطقة البلقان التي أنفقت فيها موارد طائلة. ففيما لم تحل بعد مشكلتا ناغورني كرباخ وأبخازيا بادرت الولايات المتحدة إلى حل مشاكل حوض قزوين عن طريق محاولة إيجاد إمكانات للتصدي للأنشطة الإيرانية هناك. وهذا طبعا مرتبط بالمصالح النفطية للولايات المتحدة وبريطانيا في هذا الحوض على الرغم من أن مشكلة أمن حوض قزوين نشأت زمنياً بعد النزاعات السياسية والعسكرية في جنوب القوقاز بوقت طويل. وهكذا عملت الولايات المتحدة على خفض الأهمية الدولية للقضية الفلسطينية واستبعاد راهنيتها من خلال إيجاد ساحة سياسية جديدة (احتلال العراق كان الموقع الأبرز في هذه الساحة السياسية الجديدة) للمماطلة في عملية تسوية هذه القضية وجر العرب والأوروبيين وروسيا إلى هذه الساحة ("خارطة الطريق" المسدود). وكان من نتيجة هذا أن عزفت الولايات المتحدة عن تعيين أهداف لا معنى لها لتسوية القضية الفلسطينية، وركزت كل جهدها مع إسرائيل على الموضوع الأمني. 8. الظروف السياسية داخل فلسطين كأي مجتمع يعيش مجابهة شديدة مع الخارج يتسع المجتمع الفلسطيني لشتى المواقف ومختلف النظرات لظروف السياسية في دجاخل رة من قبل الأميركيين، وهو حلم أميركي قديم.حيال آفاق وسبل حل القضية الفلسطينية. وهذا الاختلاف وهذا التنوع نشآ في المجتمع الفلسطيني منذ حرب عام 1967. وهما قائمان في داخل منظمة التحرير وفتح، وهذا لم تكن القيادة الفلسطينية لتخفي أمره يوماً، بل أقرت به كمسلَّمة، ولم تعمل على لجمه، بل كافحت فقط المتعاونين والخونة المفضوحين. وبفضل هذا الموقف المرن الذي يصعب عادة البقاء عليه في ظل صراع مستديم حافظت منظمة التحرير الفلسطينية على الوحدة والإدارة المركزية وإمكانية التصرف بليونة خلال مراحل الانعطافات في حركة المقاومة الفلسطينية. واستطاعت منظمة التحرير أن تتأقلم بفاعلية مع ظروف تشكل طبقة وسطى في فلسطين وبين فلسطينيي الشتات، وبروز الكثير من الأشخاص المتعلمين والمثقفين البالغين أعلى مستويات العلم والثقافة ورجال الأعمال الكبار، أي ظهور فئات اجتماعية واعية ومولدة لأفكار سياسية واجتماعية ليبرالية في جلّها. وبرز الخطر الأكبر على هيمنة منظمة التحرير مع ظهور منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين الدينيتي الطابع على الساحة السياسية. فهاتان المنظمتان بقيتا متمسكتين بالشعارات والأهداف الأصلية لحركة المقاومة الفلسطينية والا وهي والأهداف الأولية ن الدينيتي الطابع على الساحة السياسية. ز الكثير من الأشخاص المتعلمين والمثقفلتي تختصر في الدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل. ولم تصبح هاتان المنظمتان على الرغم من اتساع رقعة الصراع المسلح مع إسرائيل رائدتين في المجتمع الفلسطيني مع أنهما لعبتا دوراً مهماً في إيجاد أجواء من رفض التعاون مع إسرائيل وعدم التسامح حياله. ولقد تنامى دور هاتين المنظمتين المدعومتين من قبل سوريا وإيران، ومن قبل العراق أيضا، واتسعت شعبيتهما. فثمة تقديرات تقول بإمكان حصولهما في انتخابات برلمانية حرة نسبياً على نسبة تتراوح بين 40 و60 بالمائة. ولكن حتى نسبة 30 بالمائة من المقاعد في البرلمان ستتيح للراديكاليين الفلسطينيين العمل على نسق "حزب الله" اللبناني، أي النشاط برلمانيا وقتاليا. أما في الانتخابات الرئاسية فنجاحهم، كما تبين، مستبعد نظراً لعدم وجود زعماء بارزين ذوي شعبية من بينهم في المجتمع الفلسطيني، لا سيما بعد الاغتيالات الإسرائيلية التي طاولت الرؤوس الكبار في هاتين المنظمتين. ولذا استنكفتا عن المشاركة فيها مؤخراً، لا سيما في ظل عدم اعترافهما بشرعية الحكم الذاتي الفلسطيني. لقد عمل الأميركيون مع الإسرائيليين على عزل عرفات في السنوات الأخيرة عن السياسة الفعلية باعتبارهم إياه "مستنفداً نفسه" كزعيم للفلسطينيين، لاستنتاجهم بعد دراسة مستفيضة للوضع في منطقة الحكم الذاتي أن المجتمع الفلسطيني بات ناضجاً للتغيير وعمليات الإصلاح مع بروز جماعات وقوى سياسية منظمة فيه تعمل في هذا الاتجاه. وليس يعيق هذا الأمر برأيها إلا حالة التجابه الحاد مع إسرائيل. فعمليات القتال لا تتيح لهذه القوى أن تحقق أغراضها ونواياها. وقد صرح مسؤولون في السفارة الأميركية في بيروت[1] بأن الولايات المتحدة تراهن لا على "الأجواء العامة السائدة" في فلسطين، بل على أفراد سياسيين وجماعات سياسية محددة. ومفهوم أن تكون هذه الجماعات إما ممن له اتصالات بإسرائيل، وإما ممن لا تعارضه إسرائيل كشريك في التفاوض والتعاون. وهنا يمكن القول إن خطة أميركية إسرائيلية محددة يجري تنفيذها وتستند إلى وجود عملاء ومتعاونين في فلسطين ذاتها، الهدف منها خلق قيادة طيعة في منطقة السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن هذا ليس ممكناً إلا لفترة قصيرة، ذلك أن الفلسطينيين الذين لهم خبرة سياسية واسعة وهيئات سياسية متقدمة لن يصبروا طويلاً على نظام ممالئ لإسرائيل باسم الإصلاح ومكافحة الفساد في الإدارة الفلسطينية، كما يدعو الأميركيون، ويتجاوب معهم بعض أوساط المثقفين والليبراليين في فلسطين. فأياً تكن خطورة المشاكل الاجتماعية والإدارية تبقى المهمة الرئيسة بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين هي تحرير أرض الوطن، وليس الإصلاحات الاجتماعية والإدارية. ويعقد الأميركيون الآن كثيرا من الآمال على الرئيس الفلسطيني الجديد أبو مازن الذي كان مقربا من عرفات واتصل في الماضي بالزعماء الإسرائيليين ومن بين أرييل شارون نفسه. كما يولون على شخصيات من مثل رئيس الأمن الفلسطيني في الضفة الغربية جبريل رجّوب. غير أن الساحة ليست خالية لهؤلاء وحسب. فهناك أيضا المثقفون الفلسطينيون المؤيدون للزعيم الفلسطيني المحكوم عليه بالسجن المؤبد من قبل الإسرائيليين مروان البرغوتي، الداعون إلى المزيد من إشاعة الديموقراطية في داخل القيادة الفلسطينية والرافضون مساومة إسرائيل في مسألة سحب قواتها بالكامل من الأراضي الفلسطينية. وقد كان هؤلاء ينتقدون أسلوب عرفات في القيادة جاعلين بينهم وبينه مسافة ما، ويصرون على انسحاب القوات الإسرائيلية انسحابا كاملا. ولربما كان هذا ما يسمى "الطريق الثالث" في حياة الفلسطينيين السياسية وإن كان غير واضح المعالم بعد. أما المجموعة الثالثة فتتألف من منظمتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللتين إذا ما تبوأتا مركز الصدارة ذات يوم في قيادة الشعب الفلسطيني حدثت تغيرات جذرية ليس فقط في فلسطين، بل في المنطقة برمتها، إذ إن الإسلاميين لا يناضلون وحسب ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل ضد وجود إسرائيل أصلاً كدولة وكيان. إلا أن المنظمات الإسلامية الفلسطينية لا تسعى إلى تعاون وثيق مع التنظيمات الإسلامية العربية بسبب من عدم ثقة الفلسطينيين بالعرب عموما واعتبارهم الأنظمة العربية أنظمة استسلامية في معظمها. ومعلوم أن قيادة "حماس" لا تثق كثيراً بالمنظمات الراديكالية الإسلامية في البلدان العربية الأخرى ولا تريد أن تضحي أسيرة بنية ضخمة ومتشعبة مثل منظمة "الإخوان المسلمين"، وهي التي تطمح إلى دور القائد السياسي للفلسطينيين. كذلك لم تنشأ علاقات ثقة كبيرة بين "حماس" وإيران على الرغم من المساعدات التي تقدمها الأخيرة لها. وليست لـ"حماس" أيديولوجية واضحة في شأن إقامة دولة إسلامية في فلسطين، بل ثمة فكرة عامة هي أشبه بكليشيه دعائي لا أكثر. أما مجموعة "عز الدين القسام"، الجناح العسكري لـ"حماس" فليست لها أنشطة دينية أو أيديولوجية، بل هي مهتمة بتنفيذ مهام قتالية بحتة. وتبقى منظمة "فتح" كتنظيم قتالي تابع لمنظمة التحرير بعيدة كل البعد عن الإسلام السياسي وتتصرف كمنظمة علمانية، بل حتى مغربنة بعض الشيء. ويبقى القول إن الجماعات السياسية الإسلامية وغير الدينية في فلسطين هي عموما بعيدة عن الأفكار والأهداف الكوسموبوليتية للأصوليين الإسلاميين الذين ينشطون في يوغوسلافيا السابقة وأراضي الاتحاد السوفياتي السابق وفي غير أماكن من العالم، بل هي تشكل تنظيمات تحرر وطني فلسطيني بامتياز. 9. حول توطين اللاجئين الفلسطينيين تدرس الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط وبلدان شمال إفريقيا حاليا على نطاق واسع مسألة إمكان توطين الفلسطينيين. ويعتقد الأميركيون أن منح الفلسطينيين الجنسية في الدول العربية يحل إلى حد بعيد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ويسهل تسوية القضية الفلسطينية. ولأجل هذا يجري العمل حثيثاً في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وفي أماكن التجمع الفلسطيني الأخرى وفي أوساط المثقفين ورجال الأعمال الفلسطينيين. ويعتبر كل من لبنان وسوريا والجزائر وتونس مثابة البلدان الأكثر مؤاتاة للتوطين. هذا الموضوع يركز على دراسته خاصة "معهد سياسة الشرق الأوسط في واشنطن". وهنا يمكن أن نورد بعض الأفكار الأساسية: أ‌- يعتقد الأميركيون أن من المهم بمكان القيام بتجربة التوطين في واحد من البلدان المرشحة لذلك بغية تبيان إمكانيات نجاح هذه المبادرة. وهم يرون في لبنان البلد الأفضل لمثل هذه التجربة. غير أن السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد ساترفيلد لم يؤيد يوماً هذا الرأي باعتبار أن لبنان الصغير في عدد سكانه وذا النظام السياسي الطائفي هو البلد الأقل مؤاتاة لتوطين الفلسطينيين. ب‌- كانت القيادة الفلسطينية برئاسة عرفات تقف دوما موقفا معاديا من الطرح الأميركي حول التوطين. ولكن ثمة معلومات تقول أن عرفات كسياسي مجرب كان مدركاً أن قسماً كبيراً من الفلسطينيين (إن لم يكن معظمهم) في الشتات سيوطّن في خاتمة المطاف في بعض البلدان. وقد وقعت يد الأميركيين على مادة توجيهية صادرة عن القيادة الفلسطينية (ربما كانت ذات هدف دعائي مقصود) تقول إن جزءا من فلسطينيي الشتات سيبقى بنتيجة التسوية لا في البلدان العربية، بل في دول أميركا الشمالية وأوروبا المتقدمة اقتصادياً بغية إيجاد جماعات ضغط تساعد على انتهاج سياسة خارجية فلسطينية نشطة. ويخشى الأميركيون كل الخشية هذا الأمر. ذلك أن مثل هذه الأفكار باتت تنتشر بسرعة خاصة إثر منح الدول المتقدمة صناعياً، والولايات المتحدة واحدة منها، اللاجئين الألبان من كوسوفو حق الحصول على الجنسية. وقد رأى الفلسطينيون أن الأسرة الغربية عندما ظهر خطر تنامي الجاليات الألبانية في أوروبا وأميركا الشمالية أعادت النظر عموما في موقفها من سيادة يوغوسلافيا وصادقت عمليا على إقامة دولة للألبان في كوسوفو. ويمكن القول إن "وعد بلفور" نفسه كان أيضا خطوة من قبل المجتمع الغربي للتخلص من الضغط اليهودي في بلدان الغرب. وإذا كانت القيادة الفلسطينية توافق على توطين فلسطينيين في البلدان العربية، فإنها تفضل في هذا المجال البلدين الجارين لبنان والأردن. ت‌- المكان الأكثر واقعية لتوطين الفلسطينيين في إطار المشروع إياه هو بلدان المغرب العربي: الجزائر والمغرب وتونس. فهذه البلدان الشاسعة الأراضي والكبير عدد سكانها نسبياً لن يضيرها ولن يشكل خطراً على مصالحها وتوازناتها الوطنية وجود 100 ألف إلى 300 ألف فلسطيني. كما أن المشروع يقترح توطين فلسطينيين في شمال شرق العراق (كردستان العراق). جدير بالذكر أن معلومات زعمت أن رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري كان يطرح بقوة من خلال المنظمات الراديكالية السنية فكرة توطين الفلسطينيين في لبنان (وخاصة بمقابل الإعفاء من الديون الضخمة المترتبة على لبنان). فمنظمة "عصبة الأنصار" التي يمولها الحريري بسخاء تؤيد بثبات فكرة توطين الفلسطينيين. فهذا من شأنه أن يزيد تعداد أبناء الطائفة السنية في لبنان بعد أن باتوا في العقود الأخيرة من السنوات أقل عددا بكثير من الشيعة، وهذا ينعكس سلباً على موقعهم في التركيبة السياسية الطائفية اللبنانية. وليست ممكنة عودة الكثير من أبناء السنة اللبنانيين من المهجر حالياً. ويتراوح عدد الفلسطينيين في لبنان حاليا بين 130 و230 ألفاً، ويشكلون بذلك نسبة 4 إلى 7 بالمائة من سكان لبنان. وينظر قادة السنة اللبنانيين إلى حيوية الفلسطينيين السياسية والاجتماعية وإلى علاقاتهم مع فلسطينيي الشتات والداخل بعين الرضى. وتنشر التنظيمات السنية الراديكالية بتعليمات من الحريري نفوذها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين حيث تدعو إلى تأييد فكرة توطين هؤلاء محرضة إياهم على خصوم التوطين من الموارنة والشيعة. استنتاجات يمكن مما سبق استنتاج أن أياً من حكومات إسرائيل لن يعمد في المستقبل المنظور إلى النظر بجدية في مسألة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في فلسطين. فإسرائيل لن تقبل بسوى شبه كيان عربي في فلسطين يتكامل سياسياً واقتصادياً معها ويكون تابعاً لها. وليست للولايات المتحدة خطط ونوايا محددة لإقامة دولة عربية في أرض فلسطين. فهي تفضل استطالة وضع المراوحة في المنطقة. لا سيما أن تصورات تعززت في الولايات المتحدة تقول أن إقامة الدولة الفلسطينية لن تعني تسوية النزاع العربي الفلسطيني، بل قد تضحي منطلقاً لمجابهات جديدة مديدة في الشرق الأوسط. والموقف نفسه تقريباً تقفه بريطانيا التي تدعَّم تحالفها أكثر مع الولايات المتحدة بنتيجة وصول الحزب الجمهوري وبخاصة جناحه اليميني المحافظ إلى السلطة في هذا البلد. وفي هذا الصدد لم تخسر إسرائيل في مسألة الأمن في المدى المنظور، مع أنها حريصة من مواقع السياسة البعيدة المدى على عودة الحزب الديموقراطي إلى السلطة في الولايات المتحدة. وما انخراطها في معالجة المسألة الأمنية والتركيز عليها بالاستفادة من الحملة على الإرهاب التي يقودها الأميركيون في العالم إلا للهروب من استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين. وإن اعتقاد الإسرائيليين بعدم إمكان قيام دولتين على أرض فلسطين هو عامل أساسي من عوامل "انسداد آفاق" الوضع. وليس بوسع الأميركيين، ديموقراطيين ليبراليين أو محافظين جدد، أو من أنصار "السياسة الواقعية"، تسوية هذا الأمر. وإن سياسة إدارة جورج بوش والجناح اليميني للحزب الجمهوري هي سياسة موجهة موضوعياً وجهة الحفاظ على وضع النزاع العربي الإسرائيلي على ما هو عليه. فالولايات المتحدة تنظر إلى إسرائيل نظرتها إلى دولة – وظيفة، يجب عليها أن تنهج سياسة نشطة في منطقة الشرق الأوسط على خلفية ضمان أمنها في الخارج والداخل إلى أبعد الحدود. فالسيادة تتطلب ليس فقط مؤسسات رسمية مناسبة وقاعدة اقتصادية ملائمة، واعترافاً سياسياً دولياً، بل أيضا مجالاً يسمح بقيام السكان بنشاط حياتي طبيعي. أما نجاح وجود دول صغيرة في منطقة "الشرق الأوسط الكبير" والمناطق المحاذية له فممكن فقط في ظل توازن سياسي وعسكري إقليمي مستقر يفترض قيامه بقاء مستوى معين من التجابه على صعيد كل من الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية. أما في الجانب العربي فليست الدول العربية الآن بعد أنهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان حليفاً لها في صراعها مع إسرائيل، وبعد دخول العراق بعد الكويت واحتلال منابع النفط العربي مباشرة من قبل قوات الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل الاستراتيجية ومثبِّتة وجودها في منطقتنا بعد تقسيمات معاهدة سايكس بيكو، وقوات بريطانيا المبادرة إلى "وعد بلفور"، بقادرة على القيام بأية مبادرة فاعلة في ظل موقعها الضعيف حالياً. ولعل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فعلا، بما يعني الحل العادل للقضية الفلسطينية، ستنتظر تغير موازين القوى العالمية لصالح الحق والعدالة. وهذا لن يكون ممكناً في ظل الهيمنة الأميركية على العالم هيمنة لا ينازعها عليها أحد. تروي حكاية للأطفال أن صرصوراً تعاظم شأنه وعتى حتى باتت تهلع منه حيوانات الغاب وسباعها، فتفرنقع وتتراجع كلما استنجِد بها لأجل وضعه عند حده، وهو الذي زرع الرعب في قلوب الجميع بلا استثناء. كل ذلك إلى حين اقتراب عصفور الدوريّ منه ذات يوم ونقده بمنقاره بكل بساطة وابتلاعه. فهل لمثل هذا الدوريّ أن يظهر في عتمة الليل العربي الطويل فيبدد أسباب العجز والهزيمة؟ [1] السكرتيرة الأولى في السفارة آنّ بودين ِAnne C. Bodine والملحق العسكري نورمان لارسون Norman Larson.

الفئة: مقالاتي | أضاف: Michelya (18.01.2011) | الكاتب: ميشال يمين E
مشاهده: 465 | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0