الرئيسية » مقالات » مقالاتي

إخفاء لوحة "غرنيكا"
قبيل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 طالب وزير الخارجية الأميركي وهو يخطب في مجلس الأمن الدولي بلغة الإنذار الخليع العِذار بدعم وشرعنة الهجوم العسكري على الجمهورية العراقية. فأفهم العالم بذلك أن الإمبريالية لا تبحث عن حجج مقبولة للعدوان ولا ترى دائما ضرورة لتفويض أو سماح شكلي من الأمم المتحدة. كل ما تحتاج إليه هو الحرب والحرب فقط. في ذلك اليوم بات واضحا أن الحرب على العراق واقعة لا محالة.
وقبل هذا بأيام دخل إلى البهو أمام قاعة جلسات مجلس الأمن فنيون يحملون لفّات من القماش الأزرق. وفي خلال ليلةٍ واحدة غطوا بالقماش والأعلام نسخة عن لوحة "غرنيكا" للرسام الكبير بيكاسو التي تحتل كل جدار البهو. ومع حلول الصباح كانت اللوحة قد أخفيت عن أعين من راح في جو بيروقراطي مملّ يقرر مصير الناس الذين هم من لحم ودم في الشرق الأوسط البعيد من هناك كل البعد. لقد أخفوا "غرنيكا" ليس فقط عن أعين الصحافيين والعالم، بل عن ضميرهم أيضاً إذا كان لا يزال لديهم نزر من ضمير. تم فعل ذلك بهدوء وتفنن. لكن الفاعلين لم يحسبوا الحساب لشيء واحد ألا وهو أنهم بإخفائهم اللوحة عن الأعين كشفوا للحال النقاب عن الشبه القائم بين زمن "غرنيكا" (قبيل الحرب العالمية الثانية) وزمن ما قبل حرب الغزاة على العراق.
في 26 نيسان/أبريل عام 1937 دمر الطيران النازي المدينة الصغيرة غرنيكا الواقعة في جبال البيرينيه، وهي العاصمة العريقة لبلاد الباسك، والقاعدة الشمالية للقوات الإسبانية المناهضة للفاشية. ولم يبق في مكان غرنيكا سوى جثث أهاليها الألف وستمائة والمواشي المنزلية النافقة وهَدَمِ المعالم المعمارية ورماد الأراشيف المحترقة. لقد كانت تلك أول سابقة تاريخية في التدمير بالجملة من الجو، في "قتل المدائن" كما قال بعد حين جان بول سارتر. ولم يكن ليبقى قبل قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية أكثر من ثماني سنوات، وقبل القصف الجوي المكثف لبلغراد ووارصو وكييف ومينسك وسيفاستوبول وستالينغراد، قبل تدمير مدينة درسدن من قبل الطائرات الأميركية، سوى سنوات معدودة. ولم يمر طويل وقت حتى باتت مأساة غرنيكا فعلا معتادا، ممارسة يومية من ممارسات الحرب العالمية الجديدة التي كان الشعور باقتراب وقوعها يحوم في الأجواء المكهربة ويجد تداعياً له في تقارير الكومنترن التحليلية. في تلك السنوات كان الناس أيضا يتوقعون الحرب ويحاولون أيضا عدم السماح بـ"مجيئها الثاني". وهذا أيضا ما فعله بيكاسو، المقاوم النشط ضد الفاشية، عضو الحزب الشيوعي الفرنسي، برسمه لوحته "غرنيكا" لأجل حكومة إسبانيا الجمهورية المناضلة.
تلك اللوحة لم تكن دوماً مفهومة، بل قل لم يكن دوماً مرغوباً فهمها، مع أن موضوعها بسيط للغاية: إنها تصور الحرب وضحاياها. "غرنيكا" تبقى واحدا من رموز الثقافة الإنسانية الكبرى المناهضة للحرب. في العام 1985 عندما وضعت اللوحة المنسوخة عنها في بهو قاعة جلسات منظمة الأمم المتحدة أمل كثيرون أن تساعد رؤيتها على إحياء ما بقي من ضمير لدى الصقور من الساسة ومنع وقوع حروب جديدة.
لكن هذا كان أمنية ساذجة. فخدم البرجوازية من الموظفين ومن زعماء الدول الكبرى على كوكبنا لم يكونوا يشعرون بأي حرج من حضور لوحة بيكاسو هذه عندما كانوا يصادقون على قرارات تقضي بقصف يوغوسلافيا وبإشعال حرب العراق الأولى عام 1991، وفي حضورها اتفقوا بالأمس على مهاجمة أفغانستان التي كانت مثابة "تمرينة" على العدوان على العراق مجددا، ثم ليبيا، ثم ما يحاولون محمومين فعله ضد سوريا الآن. وعلى الرغم من ذلك لا تفتأ الإمبريالية تهلع أمام "غرنيكا". فـ"غرنيكا" تذكر العالم بأنه يقف مجددا على أعتاب حرب عالمية شاملة، والإمبرياليين المعاصرين بأنهم يشبهون في كل شيء أسلافهم الفاشست في جرائمهم.
غير أن التنكيل المشين باللوحة المعادية للحرب افتضح أمره بسرعة. فراح مديرو الشؤون في الأمم المتحدة يعملون على تبرير تلك الفعلة وهم عاجزون عن التبرير. فصرحوا بأن لوحة بيكاسو "المنمقة الألوان" هي خلفية سيئة للمقابلات التلفزيونية. ولكنهم كانوا يكذبون ويدجلون لأن بيكاسو لم يستخدم في لوحته إلا ثلاثة ألوان هي الأبيض والأسود والرمادي، وهي مدى سنوات وسنوات لم تشكل أي عائق أمام عمل صحافيي التلفزة. وفي ساعات معدودة تسربت إلى الصحف الأميركية أخبار فاضحة تقول إن اللوحة أخفيت تحت ضغط مباشر من جانب وزارة الخارجية الأميركية. فالدبلوماسيون الأميركيون رأوا أن مناقشة موضوع قصف العراق على خلفية لوحة بيكاسو المعادية للحرب المعروفة من قبل العالم كله سيبدو أمرا فيه الكثير من اللبس. فبرأيهم أن "غرنيكا" قد تؤثر تأثيرا "ضاغطاً" و"مزعجاً" في أعضاء مجلس الأمن. لقد خشي جلادو بغداد آنذاك من أن ينظر العالم إليهم نظرته إلى جلادي "غرنيكا".
لقد باتت لوحة بيكاسو المنكَّلُ بها أحد رموز مقاومة الحرب في أيامنا. فقد خرج آنذاك 150 عاملا في متحف الملكة صوفيا في مدريد إلى الشارع حاملين شارات "لا للحرب!" ونسخة ضخمة لـ"غرنيكا" ومحتجين على الحرب في العراق ومطالبين في الوقت نفسه بإعادة كشف الستار عن نسخة اللوحة في الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه أنشأ ممثلو المثقفين من بين الرسامين البارزين في مدريد حركة دولية تحت اسم "عالم الثقافة ضد الحرب" ما عتمت أن انضمت إليها كبرى جمعيات ممثلي السينما والمسرح ونقابات المخرجين واتحادات الكتاب في أوروبا. وأيدهم في ذلك ممثلو نقابات كاتالونيا.
إن للوحة بيكاسو مصيراً تحسد عليه. فهي لا تزال حتى اليوم تخرِج مشعلي الحروب من توازنهم النفسي. العالم كله يحدق في "غرنيكا" التي أسدل الستار عليها الإمبرياليون. فالفوضى الناجمة عن الحرب التي تصفها هذه اللوحة راحت تظهر في الصور التوثيقية للمدن والقرى المدمرة في العراق وليبيا. والسؤال: إلى متى؟

الفئة: مقالاتي | أضاف: Michelya (28.12.2011)
مشاهده: 480 | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0