الرئيسية » مقالات » مقالاتي

منذ احتلال الكويت واغتيال الحريري

درجت الولايات المتحدة الطامعة بالهيمنة على العالم على تحقيق مشاريعها التوسعية بأيد وأدوات محلية. فكما تمكنت بواسطة أدوات اندست كالسوس في جسم الدولة التي كانت تقود حركة التحرر الطبقي العالمية أمثال غورباتشوف ويلتسين وغيرهما من دحر الاتحاد السوفياتي بنتيجة "حربها الباردة" عليه، وتالياً من ضرب الحركة الشيوعية العالمية الطامحة إلى تغيير العالم تغييراً جذرياً يحِل محل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تخدم مصالح الطبقات المستغِلّة أنظمة شعبية تعيد الحق إلى نصابه وأصحابه، والسلطة على مقدرات المجتمع إلى الطبقة العاملة والشعب الكادح بيديه وذهنه، أي إلى صانعي هذه المقدرات الحقيقيين، ها نحن نراها أحياناً كثيرة في السنوات العشرين الأخيرة تنجح في مسعاها للهيمنة على العالم، من خلال احتلالات أو اغتيالات غير مشروعة تقوم بها أنظمة برجوازية محلية نيابةً عن المدبر والمخطط الحقيقي، وكأن هذه الأخيرة لا تعي ما تفعل، فتصب الماء على طاحونة التوسع الرأسمالي الإمبريالي الأميركي الذي يتم على حساب مصالح الشعوب الفقيرة المضطهَدة في العالم الثالث خاصة.

فبعد الحرب العراقية الإيرانية باسم استعادة شط العرب إلى العرب (!)، والتي حرضت الولايات المتحدة الرئيس العراقي الطاغية صدام حسين على خوضها عملا بمبدإ "فرق تسد!"، وانتقاماً من الثورة الإسلامية في إيران التي أبعدت الشاه ومعه الشركات النفطية الأميركية، رأينا كيف أن الولايات المتحدة إياها، هذه الدولة الاستعمارية الأولى في أواسط القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بررت احتلالها لمنابع النفط العربي، وهو حلم راودها منذ أن اكتشف هذا النفط الغزير في جوف الأرض العربية، بالحرب التي شنها صدام على الكويت باسم استعادة النفط العربي من براثن الشركات الغربية الأميركية بامتياز. فمن المعلوم للجميع أن الولايات المتحدة، من خلال تصريحات سفيرتها في الكويت غلاسبي الزاعمة أن الولايات المتحدة ستغض النظر إذا ما لجأ إلى نزاع مع الكويت، هي التي استدرجته إلى شن تلك الحرب، بعد أن أسكرته "الانتصارات" الموهومة في الحرب على إيران وجعلته "موضوعاً قابلا" لشن حروب جديدة. وبذلك استطاعت أن تشهّر بالنظام العراقي بوصفه نظاماً دكتاتورياً ذا نزعة عدوانية متهورة يخالف القواعد الدولية في احترام استقلال الدول والشعوب. فأتت بجيوشها الجرارة وجيوش "الذباب" من حلفائها الذين رافقوها لئلا يتخلفوا عن الركب وليأخذوا حصتهم من الذبيحة المضرجة بالدماء، من العراق المعذب وثرواته الطبيعية. تلك هي طبيعة الإمبريالية الحديثة وريثة الاستعمار القديم. فهي تفرّق لتسود وتستدرج عملاءها إلى ارتكاب الخطإ الشنيع باسم شعوبهم التي يمتطيها هؤلاء عنوة وعلى حراب أسيادهم لتتحمّل هذه الشعوب وهي براءٌ من هذا الفعل الخاطئ، الشعوب التي هي نفسها موضع اضطهاد، جريرة فعلة ارتكبها عملاؤها.

لقد أظهرت لنا حرب العراق على الكويت والتدخل الأميركي لتحريرها لوحة فريدة: فكأنك أمام امرأة جاء مارق محاولا انتزاعها من مغتصبيها لـ"إنقاذها"، غير أن ذاك المارق الأعتى والأشد بأساً هرع باسم إنقاذها لاغتصابها مرة أخرى لأنها باتت حلالاً للمغتصبين بعد أن انتهِك عِرضها المرة تلو المرة. هكذا كان الأمر لدى "إنقاذ" الكويت من براثن صدام، وكذا كان أيضا لدى "إنقاذ" الشعب العراقي من دكتاتورية صدام. وهل كان لهجوم صدام على الكويت أن يتم أو لدكتاتورية صدام أن تستقيم لولا الدعم الأميركي الخفي والظاهر لهذا الأخير بالسياسة وسلاح الإبادة وغيرهما؟

ثم أظهرت لنا حرب الأميركيين الأخيرة على العراق كيف تستخدَم أحداث جلل مثل أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 جرت على خلفية شعار مكافحة الإرهاب الذي رفعه الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش (بعد شعار الدفاع عن حقوق الإنسان الذي رفعه بطريقة فرّيسية الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر) لاغتيال حرية الشعوب واستقلالها والسيطرة على ثروات أراضيها. وتبرير هذه الحرب من قبل الأميركي القوي المتجبر كتبرير التهام الذئب للحمل الذي عكّر مياه النهر حسب زعمه، وإن لم يكن هو الذي عكرها فأي من أقاربه وصحبه وربعه! (أولم يتهم الزعيم النازي الألماني هتلر ذات يوم بحريق الرايخستاغ الزعيم الشيوعي البلغاري غيورغي ديمتروف زوراً، وهو من ذاك الفعل براء كما أثبت بنفسه خلال المحاكمة؟!).

وفي أوكرانيا ألم يستخدم الأميركيون حادث اغتيال الصحافي المعروف غونغادزة لإيصال الرئيس المتأمرك من رأسه حتى أخمص قدميه فيكتور يوشنكو إلى السلطة؟ تم هذا في ظل حكم رئيس لا يمكن القول فيه إنه غير برجوازي وغير موال للأميركيين والأطلسي هو الرئيس كوتشما، لإشعال الوضع السياسي في هذا البلد وافتعال "ثورة برتقالية" جرّت إليها قطاعات واسعة من الشعب الأوكراني وأبعدت المرشح الشيوعي سيموننكو عن حلبة الصراع الانتخابي عام 2004 (بعد أن كان في العام 1999 الثاني في التنافس على سدة الرئاسة بعد كوتشما) وأبقت في الحلبة مرشحَين برجوازيين هما يانوكوفيتش ويوشنكو؟ الأول احتمى بالبرجوازية الروسية (الطامعة بدور "الإمبراطورية الليبرالية" حسب قول أحد مؤسسي النظام الرأسمالي الروسي الحديث تشوبايص)، والثاني احتمى بالبرجوازية الأقوى ذات الطابع العالمي، ببرجوازية الإمبراطورية الليبرالية العالمية. فكانت النتيجة الحتمية هي انتصار الأقوى.

وأخيراً في لبنان جاء اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري مثابة الصاعق لإشعال "ثورة الأرز" التي طالما بشر بها الرئيس الأميركي بوش وإخراج الجيش السوري ومعه النفوذ السوري المباشر من لبنان واتهام سوريا وجماعتها في لبنان بأنها وراء عملية الاغتيال هذه. وكان من الطبيعي أن يستخدم هذا الحدثَ الجلل أيضاً بغية الوصول إلى السلطة جناحُ البرجوازية اللبنانية الذي كان مبعداً عن "قالب الحلوى" أو مجبراً، كما يبين تاريخ الأمراء اللبنانيين، على دفع الإتاوة إلى "الباب العالي" من تعب الشعب اللبناني وكدحه ومستقبل جيله الطالع، لقلب الطاولة على الجناح الآخر من هذه البرجوازية الذي تعاون مع الأجهزة السورية خلال وجودها في لبنان. وقد استفاد من القرار الدولي 1559 الموحى به أميركياً وأوروبياً، ومن الامتعاض الشعبي من الحكم اللبناني الذي أوصل البلاد في ظل الهيمنة السورية إلى أزمة اقتصادية خانقة زادها الدين المتراكم احتداماً. ولكن تبقى الفاتورة المطلوب دفعها أميركياً وهي إبعاد شبح أي مقاومة عن إسرائيل ومعاقبة سوريا على عدم تعاونها في العراق.

وتحور وتدور تحقيقات لجنة ميليس حول دور سوريا وجماعتها في لبنان في جريمة قتل الرئيس الحريري تلميحاً وتوضيحاً، اشتباهاً واتهاماً. فهل يمكن أن يثق المرء بموضوعية لجنة ميليس المنبثقة عن الأمم المتحدة وابتعادها عن الأهواء السياسية العالمية والداخلية، والكل يعرف أن الأمم المتحدة باتت برمتها، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتفاء وجود القطب العالمي الثاني الموازن، مطية طيعة لأطماع الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم؟ ألا يمكن أن يخالج الشك امرأً في كون لجنة ميليس جاءت فعلاً لتبيان الحقيقة، حقيقة من اغتال الحريري؟ ألا يمكن أن نظن ولو للحظة أنها كمثل لجنة دلبونته الدولية في لاهاي للتحقيق في جرائم يوغوسلافيا جاءت لترسخ "العدالة" الأميركية المزعومة، لأن أميركا هي اليوم في العالم الحاكم الأعلى والحكَم والنائب العام المتهِم والقاضي والمحامي ومنفذ الحكم؟ فهل يمكن أن يكون من بيده كل السلطات عادلاً منزهاً من الغرض؟

إن الأفعال، كما يقال، بخواتيمها. ولئن كان المتضرر الأول مما حدث هو سوريا، فالمنطق يقول أنها لا يمكن أن ترتكب هذه الفعلة الشنعاء إلا إذا كانت تعمل هي نفسها ضد مصلحتها بالذات. ولقد عمل صدام حسين عندما استُدرج إلى حربين على إيران والكويت، ضد مصلحته هو نفسه في البقاء لاحقاً على رأس السلطة في العراق، وعمل تالياً ضد مصلحة بلده وشعبه، وربما كان هذا لسوء في الحساب. وليس ما يمنع من أن ترتكب جهات في لبنان وسوريا الخطأ نفسه، فتُستَدرج، من خلال إيحاءات أميركية بعدم الاهتمام بما قد يجري، إلى الوقوع في زلة قد تصبح بالنسبة إليها كزلّة آخيل، أي مصرعاً لها ومدخلاً استعمارياً جديدا إلى بلدانها. وذلك عبر اختراق أميركي للأجهزة الأمنية المحلية والإقليمية وتوريط لهذه الأجهزة في المحظور. وبهذا تكون البرجوازية الوطنية التي قادت فيما مضى النضال التحرري للشعوب المغلوبة على أمرها قد استنفدت كل ما لديها من طاقات إيجابية وباتت أسيرة المشاركة القاتلة في مؤامرات ودسائس أجنبية تعود بالوبال على هذه الشعوب.

وهذا لا يعني البتة استبعاد فعل إسرائيلي أو استخباراتي آخر بامتياز استفاد من الخلافات داخل البيت السياسي البرجوازي الواحد ليفجر هذا البيت ويدخل إليه منتصراً كما دخل كل حرم شريف في هذه الأمة حتى الآن.

ولن يقطع دابر هذه الدسائس سوى نضال الشعوب العربية نفسها. وهنا تعود إلى الواجهة ضرورة أن تلعب القوى المفترض فيها أن تكون الممثلة حقاً وفعلاً لمصالح هذه الشعوب، نعني بها أحزاب الطبقة العاملة. فأين هي هذه الأحزاب اليوم مما يجري من أحداث؟ وهل تبقى تتفرج عليها تفرجاً سلبياً فتسهم بسكوتها وميوعتها وتراجعها عن خوض غمار النضال القاسي في قتل أوطانها أمام أعينها، أم أنها ستعود إلى المسار الثوري المتجدد في برامجها وسياساتها وفكرها بعد طول ارتداد عن أهداف الطبقة العاملة والمحرومين وانتهازية قاتلة منذ بيريسترويكا غورباتشوف خاصة؟  إلى الحركة الشعبية النشطة التي يجب أن تعيد الأمور إلى نصابها ولا تترك الساحة مفتوحة أمام القوى المعادية لمصالح الشعب والوطن الحقيقية؟

إن البلدان العربية قادمة مجدداً إلى عصر أحلاف استعمارية تجعل منها موطئ قدم لاستكمال الهيمنة الأميركية على العالم وصولاً إلى إيران وروسيا والصين. والأحزاب الشيوعية واليسارية الأخرى في العالم العربي مدعوة بإلحاح إلى حشد قوى الشعب لإفشال مشاريع إقامة هذه الأحلاف، وعلى رأسها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي هو مشروع للسيطرة على المنطقة سياسياً واقتصادياً وللاستيلاء على النفط العربي ولجعل المنطقة معبراً للهتلريين الجدد. ولقد بات ضرورة تاريخية التنسيق فيما بينها وصولاً إلى مزيد من الوحدة والتلاحم على أساس الأممية البروليتارية، أممية العمال والفئات الشعبية، في مواجهة أممية البرجوازيين من ممثلين سياسيين لشركات عالمية متجاوزة حدود الدول والقارات أخذت تنضم إليها شيئا فشيئا البرجوازيات "الوطنية" لتصبح برجوازيات كومبرادورية بفعل تواصل المصالح وتقارب الغايات في مرحلة الإمبريالية وهيمنة الشركات العالمية على السوق. وخير مثال على قدرة مثل هذه الجبهة على مواجهة العولمة، هذه الأممية الظالمة المستبدة المستكبرة، بأممية عمالية وشعبية، أممية للفقراء والمعدمين، ما نراه ينشأ في أميركا اللاتينية بعد ثورة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافس وتحالفه مع الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو من حلف إقليمي ضد الطغيان الأميركي العاتي.

الفئة: مقالاتي | أضاف: Michelya (25.06.2011)
مشاهده: 383 | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0